صفحات من كتاب بيروت | أرشيف

الكاتب رسمي أبو علي

 

العنوان الأصليّ: صفحات من كتاب بيروت. 

المصدر: «مجلّة الكرمل».

الكاتب (ة): رسمي أبو علي. 

زمن النشر: 1 يوليو 1983.

 


 

صبيحة الرابع من حزيران 1982 أفقت مبكّرًا، شربت بضعة كؤوس من الشاي ودخّنت عددًا من السجاير، وطوال الوقت كان لديّ التوقّع المألوف بأن أرى قصيدتي الأخيرة منشورة حيث أنشر عادة؛ في جريدة «النهار» البيروتيّة.

نهضت من سريري ولبست ثيابي بسرعة، وبـ«الشبشب» المنزليّ هبطت بالمصعد من الدور الثامن حيث أقيم، متّجهًا إلى المكتبة القريبة على الرصيف المقابل، وبالفعل صحّت توقّعاتي؛ إذ وجدتها منشورة في المكان الّذي يحبّ شوقي أبي شقرا أنْ يضعني فيه؛ نافذة داكنة الحروف تجلس على أحجيات الكلمات المتقاطعة في أقصى اليمين من الصفحة الثقافيّة.

في الساعة الثالثة بعد الظهر، وفيما كنت في سريري وزوجتي تقلي شرائحًا من لحم البقر للغداء، وجدت نفسي أكتب مقطوعتين شعريّتين.

وفي الثالثة وعشر دقائق توجّهت إلى المطبخ، وبدأنا نأكل، وبعد خمس دقائق اندلعت الحرب دون أنْ نستطيع إكمال غدائنا.

فجأة ارتجفت المنطقة برعد القصف. ضربوا: صرخت زوجتي.

لا تخافي، قلت لها، اهدئي. وفي هذه الأثناء جاءت ابنتي كالسهم من حيث كانت عند صديقتها في الجوار. لبسنا بسرعة ونزلنا مشيًا آخذين بعين الاعتبار ألّا نستعمل المصعد. وعندما وصلنا إلى مدخل البناية وجدنا أنّ سكّانها جميعًا قد سبقونا، ولن أنسى جارنا وهو شابّ أنيق ومتحفّظ باستمرار، يهرع خائفًا وهو يمسك بيد طفلته وهو بالملابس الداخليّة، الأمر الّذي جعل زوجتي تضحك برغم أنّها كانت في قمّة الخوف.

أكملنا طريقنا بهدوء إلى الملعب البلديّ القريب من بيتنا، حيث وصلنا إلى المدرّج، فوجدت عددًا من الشباب أعرف بعضهم، فبادرني أحدهم:

- هل ابتدأ الفيلم؟

قلت له باسمًا: أظنّ ذلك.

بعد نصف ساعة وجدنا أنّ القصف لم يتوقّف كما قدّرنا، وإنّما هو يزداد، وفي هذه الأثناء حضرت بضعة سيّارات تحمل مدافع مضادّة، فأدركنا أنّنا لسنا في المكان الآمن، فخرجنا من الملعب واتّجهنا بخطوات هادئة قاصدين كورنيش المزرعة، مارّين بساحة أبي شاكر من فوق. أمّا السيّارات العسكريّة فقد أصيبت بالجنون، وكان أمرًا عاديًّا أنْ تدهمك إحدى هذه السيّارات إذا لم تكن في قمّة الحذر.

قبل أنْ نصل إلى الكورنيش بخطوات شاهدت صديقي أحمد عبد الرحمن، رئيس تحرير «فلسطين الثورة»، يراقب الوضع من مدخل البناية الّتي يسكن فيها. سلّمت عليه وعرّفته على زوجتي وابنتي، فأبدى بعض الدهشة، ثمّ قال لي بأنّه قرأ قصيدتي المنشورة صباحًا وأنّها أعجبته كثيرًا، فشكرته وقلت له ونحن نبتعد:

- إنّها تلخّص مسار الحرب! صرخ: ماذا؟

ولكنّنا كنّا قد ابتعدنا.

حافظنا على سيرنا الهادئ ورؤوسنا مشرئبّة إلى أعلى. كانت الطائرات فوق رؤوسنا تأتي من جهة البحر. كان ثمّة غيوم بيضاء في الجوّ.. وبدت لي الطائرات كحشرات سامّة تشقّ طريقها كالقوارب في بحر الغيوم.

 

***

 

لا أذكر ماذا حدث في اليوم الثاني. كلّ ما أذكره أنّنا استيقظنا على توقّع بأنّ تعود الطائرات لتقصف مجدّدًا. أمّا الجيران فقد غادر بعضهم، ولم ينم ليلته في بيته. أمّا القسم الآخر – ونحن منهم – فقد أجّلنا مسألة الرحيل، ولكنّنا ابتدأنا ندخل في حالة طوارئ، بحيث نكون جاهزين لدى أوّل وجبة قصف.

تابعنا الأخبار من هنا وهنا، وترسّخ لدينا الانطباع أنّ الحرب قد ابتدأت فعلًا.

غادرنا – ثلاثتنا – في حوالي العاشرة صباحًا، متّجهين إلى منطقة الحمراء، ومن هناك واصلنا سيرنا إلى حديقة الصنايع، فوجدناها مكتظّة بالناس – وكان معظمهم قد بات ليلته تحت شجر الحديقة – وهم بأغلبهم من سكّان صبرا وشاتيلا.

رأيت بعض الشباب، وأحدهم (....) من الكوادر البارزة في إحدى التنظيمات، فخجل عندما رآني، وحاول أنْ يخبّئ نفسه بطريقة ما، فابتسمت – ولماذا أيّها الرفيق؟ أنت حرّ أنْ تكون هنا أو هناك، فلست مراقبًا على أحد، كما أنّني نفسي موجود في الحديقة!

أظنّ أنّ الطائرات عادت ظهرًا، وعندما ظهرتْ فوق رؤوسنا أخذ الناس يختبئون تحت الأشجار. صرخ أحد الأولاد: اختبئ لئلّا يروك.

هكذا أدركت أنّ الناس باتوا يتوقّعون كلّ شيء.

اشتريت كعكًا بسمسم، وشربنا ماءً من الحديقة، وتسكّعنا هنا وهناك وأنا أردّد لسبب لا أدريه قصيدة لمحمود درويش:

"ظلّ النخيل وآخر الشهداء

والمذياع يرسل صورة صوتيّة

عن آخر الأحباب يوميًّا

أحبّكِ

في الخريف وفي الشتاء".

في الحديقة بعض شجر النخيل، وربّما كان هذا هو السبب، وربّما كان ثمّة سبب آخر.. لا أدري. قلت في نفسي وأنا ألاحظ الإيقاعات السريعة في القصيدة: تك تك تتك تكتك.. هذا هو شاعر «المورس كود» (شاعر الشيفرة السريّة الفلسطينيّة)، وكنت مرتاحًا إلى هذا الاكتشاف.

حَمِيَ الوطيس، وتضاعف ذلك الصوت الجارح للطائرات، فهرب قسم من الناس، أمّا نحن فمشينا بهدوء وأنا أوصي زوجتي وابنتي: الهدوء. الهدوء الحقيقيّ – من يفقد أعصابه في هذه الحرب فهو مندثر لا محالة.

عدنا إلى شارع الحمراء وكان خاليًا نسبيًّا، ولدى وصولنا إلى نهاية الشارع خطر ببالي أنْ أعرّج على فندق الحمراء الجديد، حيث أعرف أنّ فيه عددًا من الشباب. فصعدنا إلى الصالون في الطابق الأوّل، حيث وجدنا سميح سمارة وبجانبه بقايا زجاجة من الويسكي. قدّم لي كأسًا، وأراد أنْ يقدّم كأسًا لزوجتي، فقالت له بأنّها لا تشرب. ثمّ تحدّثنا في الأوضاع الراهنة. سألني فيما إذا كنت ذهبت إلى الإذاعة، فقلت له بأنّني لم أذهب ولا أنوي أنْ أذهب.

- وهل هذا يجوز؟ سأل بدهشة مصطنعة بعض الشيء، فقلت له بأنّني لم أعد مذيعًا منذ زمن بعيد، وأنا الآن رجل رصيف، ولا أنوي أنْ أغيّر موقعي.

كان هناك رجل عسكريّ متشائم إلى حدّ كبير، قال إنّ الحرب ستنتهي خلال أيّام، وأنّ الأمور فارطة من أوّلها إلى آخرها. فاستفزّني ووجدت نفسي مندفعًا في الدفاع.. عن ماذا؟ ربّما عن الذات..

قلت له: يا صديقي إنّ القانون الصعب لهذه الحرب هو كما يلي:

إمّا الانخراط الشامل

أو السقوط الشامل.

وهذا يشمل الجميع أفرادًا ودولًا، وشطحتُ إلى بعيد كعادتي، فذهل الرجل وحاول أنْ يتراجع. كان هناك شابّ وسيم أحببته حقًّا، إذ كان يتجاوب مع معظم أفكاري، فأحسست ببعض الدفء، وأنّني لست وحيدًا في عنادي، ثمّ عدنا إلى البيت.

اكتملت الصورة، وأصبح واضحًا للجميع إنّها الحرب الشاملة، وفي الجنوب تسارعت الأخبار عن زحف صهيونيّ شامل. أمّا في بيروت، فعادت الطائرات إلى القصف المروّع، وأصبح البقاء في الفاكهاني ضربًا من الجنون، ومع ذلك واصلنا برنامجنا المعتاد: النزول من البيت في حوالي العاشرة والتوجّه إلى الحمراء، ثمّ إلى حديقة الصنائع والتسكّع هنا وهناك، ثمّ العودة مساءً إلى البيت، بعد أنْ نتأكّد تمامًا أنّ الطائرات لن تعود مرّة أخرى.

أمر واحد كان يقلقنا، ويضغط على أعصابنا، هو الخوف الدائم على أسامة – ولدنا – البالغ من العمر ستّة عشر عامًا، والّذي كان قد التحق بإحدى وحدات الميليشيا، قبل فترة طويلة من اندلاع الحرب. وكان مكتبهم الرئيسيّ قرب البيت، بجوار الملعب البلديّ، وفي الأيّام الأولى كان يمرّ بين حين وآخر فانفحه ببعض النقود وأقول له لدى مغادرته جملة واحدة:

- حاول ألّا تموت..

في الليلة الخامسة انتبهنا إلى أنّنا الوحيدون الباقون في البناية، إضافة إلى أفراد من الميليشيا في مدخل البناية وفي الملجأ. لم أكن أريد المغادرة، وعندما نتناقش في أمر النزوح كنت أقول لزوجتي وابنتي:

بالنسبة لي فأنا أعرف تمامًا أنّني سأخرج سالمًا من هذه الحرب، ولذلك لا داعي للقلق.

- أمّا نحن فلسنا واثقين من أيّ شيء،  تجيب ابنتي، وخلاصة القول إنّه كان يتعيّن علينا البحث عن مكان آخر.

بعد تفكير وتدارس للموقف وجدنا أنْ ننزح إلى شارع حمد، الواقع على مبعدة حوالي ثلاثمائة متر عن بيتنا، والّذي يمتاز بأنّه منخفض عن سطح الحرب.

جمعنا بعض الملابس والأدوات الضروريّة، وهبطنا الدرج متوجّهين إلى بيت شقيقة زوجتي، فرحّبت بنا، وأعطتنا غرفة نومها.

لم يكن الزوج موجودًا، ولدى عودته بعد الظهر كان خائفًا بشكل ملحوظ، فسألناه ما الخبر، فقال بأنّ الأمور سيّئة جدًا، وأنّهم وصلوا إلى بعبدا.

أكلنا لقمة وارتحنا قليلاً، وفي حوالي الثالثة والربع اشتعلت سماء بيروت بأصوات المضادّات الرائعة.

انتقل الجميع إلى الملجأ وبقيت في سريري أصغي إلى أصوات الحرب الفاتنة.

كانت الرمّايات شرسة من الجانبين، وقد تساقطت بضعة قذائف قريبًا من البيت، ولكنّني بقيت ساكنًا.

في الخامسة والنصف أطلقت الحرب سراح نفسها، وأصبحت مباراة ممتعة بين الطائرات والمضادّات – شفَّتْ الحرب وتحوّلت إلى شعر – ووجدتني أتمتم: الله! الله!

صباح الأربعاء، سادس يوم من أيّام الحرب، قرّرت أنْ أتوجّه إلى الإذاعة.. كانت الساعة تمام الحادية عشر صباحًا، وهو الموعد الدقيق الّذي أتحرّك فيه عادة من البيت.. إلى أيّ مكان.

خافت زوجتي، ولكنّني طمأنتها بأنّني لن أتأخّر، والإذاعة على كلّ حال قريبة. وكانت لا تزال في موقعها الثاني خلف بنك الدم – مستشفى عكّا، في قلب الفاكهاني، في قبو متواضع تحت الأرض.

خرجت من البيت إلى شارع حمد، صاعدًا شارعًا جانبيًّا باتّجاه الفاكهاني، وعلى رأس الشارع الخالي تمامًا شاهدت امرأة مسنّة تطلّ من باب عتيق وتحدّق في الفراغ.

- ماذا تفعلين هنا يا جدّتي؟ سألتها، فقالت بلهجة تشبه لهجة الأطفال بأنّهم ذهبوا جميعًا وتركوها. "وكيف ذلك؟ لماذا لم يأخذوك معهم؟"، "ليس هناك مكان.."، أجابت باستسلام. أحسست بالحزن وسألتها فيما إذا كان لديها طعام، فقالت بأنّ عندها طعام ولكنّها خائفة.

أحسست بالخطر، إذ إنّ الطائرات قد تُغير في أيّ لحظة، فنظرت إليها آسفًا، وقلت لها بأنّني سأعود فيما بعد، وأكملت طريقي.

كنت أحسّ بأنّني أخترق مجالًا مغناطيسيًّا من الرعب، وخاصّة عندما وصلت أوّل الشارع الّذي قُصِفَ عدّة مرّات، والّذي تحوّل إلى مكان نموذجيّ للخراب والموت. ومع ذلك كان ثمّة بعض الشباب يجلسون بهدوء أمام إحدى البنايات المتبقّية، وكانوا يدخّنون بهدوء، فتساءلت: أتراهم لا يحسّون بالخطر، أم أنّهم اخترقوا حاجز الخوف، ولم يعودوا يحسّون بشيء؟

أكملت طريقي.. هنا كانت مكاتب الديمقراطيّة.. هنا يسكن علي فودة مع العجوز العجيبة.. وهذا كراج الشاب اللبنانيّ، الّذي كنت أصلّح فيه سيّارتي الأثريّة كثيرة الأعطال.. هنا.. هنا. ولكن ما الفائدة؟ هل هو وقت البكاء على الأطلال؟ أم وقت التحدّي العظيم؟

وصلت إلى الإذاعة فهبّوا في وجهي: أين كنت؟ ولماذا تأخّرت؟ فقلت لهم بين المزاج والجدّ بأنّني لست في الإذاعة، إذا كنتم تذكرون جيّدًا، فقد أنهيت عملي فيها منذ سنوات. ووالله.. لولا بعض الاعتبارات المتعلّقة بأمني الشخصيّ تحديدًا، لما رأيتم وجهي.

كنت غاضبًا من الجميع قبل الحرب، وكان الجميع غاضبين منّي بالدرجة نفسها. هل كان الأمر سوء تفاهم متفاقمًا، أم كان أبعد من ذلك؟ ليس مهمًّا الآن، طالما أنّ دبّابات شارون أطبقت الحصار علينا.

وبسرعة ذابت كلّ الحواجز الّتي كانت تفصل بيننا ورأيتهم.. رأيت الشباب كأجمل ما يكون الشباب: خائفين قلقين، ولكنّم صامدون في أخطر موقع متقدّم؛ الشاعر المصريّ زين العابدين فؤاد الّذي كان متمترسًا في الزاوية، يوسف حسن الّذي هتف عندما رآني: كنت أعرف أنّك ستأتي، فقلت: وهل أستطيع أن أتخلّى.. ميشيل النمري، أمجد ناصر، حسن عصفور، خالد مسمار، نبيل عمرو، رشاد أبو شاور، عبد البديع، فارون، قيس، هل نسيت أحدًا..؟ سأعود وأتذكّر فيما بعد.

 

***

 

وغالب هلسا.. هل يمكن نسيان ذلك العجوز الّذي عكف بحاسّته الروائيّة على تسجيل جوانب خاصّة، وتفصيليّة من حياة الناس في الحرب والحصار.

أمّا علي فودة، الصديق اللدود، فوجدته بكامل سلاحة متمترسًا في قبو الإذاعة في اليوم التالي.

كانت القطيعة بيننا تامّة قبل الحرب، أمّا الآن، سلّمت عليه وتجمّع حولنا بعض الشباب مباركين هذا الصلح، ودار الكلام. قلت له آنّ الأوان لإعادة الاعتبار لبقيّة مؤسّسي «الرصيف»، فأنت لست الرصيف كما هو معلوم. قلت له آن الأوان لنبذ خلافاتنا الماضية وأن نبدأ صفحة جديدة، لكنّه عاند، فقلت: هكذا إذن! أمدّ لك يدي فترفضها ومتى؟ وأين؟ تحت هذا الجحيم!

حملت نفسي غير عابئ بأيّ خطر والغيظ يتأجّج في داخلي. هكذا إذن أيّها الصديق! بسيطة! فالمعركة لا تزال طويلة.

عدت إلى البيت صاعدًا الدرج الحلزونيّ، وشظايا الزجاج تتكسّر تحت قدميّ، والغبار يلفّ كلّ شيء. نفضت الغبار عن سريري واستلقيت ودويّ المدفعيّة والرشاشات يتصاعد في الجوّ.

تفقّدت الزهور المنزليّة، ووجدت بقايا ماء قديم في المطبخ فسقيتها. أمّا الزهور خارج المنزل، زهور الشّرفة، فاعتذرت لها بصدق.

دخّنت بضعة سجاير، وشربت بعضًا من بقايا زجاجة فودكا، وكنت حزينًا جدًّا.. حزينًا حتّى الموت. وتصاعدت القصيدة في داخلي:

لا بدّ لي من العودة إلى الفاكهاني

بين حين وآخر

فلديّ زهور عليّ أن أسقيها

وكتب لأنفض الغبار عنها

واسطوانات لأستمع إلى صمتها

لا بدّ لي من معرفة ماذا حلّ بسرب حمام جارنا أبي سعيد

وهل لا يزال يتدبّر أمره

بعد أنْ طوّحت الحرب بأهله

لا بدّ لي من معاينة الظلال

ومعرفة مصير الكناري.

أتُراه لا يزال يقطر اللحن الأخير

أم مات عطشًا واشتياقًا؟

يقولون: القذائف.

من يبالي بالقذائف.

يقولون الطائرات

والبوارج، والإف – 16، والإف، افّ.

لا ينبغي لهم أنْ يكونوا فخورين بذلك،

موسيقى، كتب، ظلال، اسطوانات لأستمع إلى صمتها.

 

***

 

إنّ القلّة القليلة من بني البشر تدفع عجلة الزمن إلى الأمام، أمّا الغالبيّة العظمى فتحاول دفعه إلى الوراء. على أنّ الزمن لا يسير بشكل مستقيم، وجلّ ما توصّل إليه أكثر المتأمّلين في حركة الزمن، حركة التاريخ، هو أنّ الزمن يسير بشكل حلقات حلزونيّة.

لكن لماذا أقول هذا؟

ولماذا لا أسجّل تلك اللحظات الفريدة في صباح 19/7/1981، عندما قصفت الطائرات الإسرائيليّة منطقة الفاكهاني لأوّل مرّة.

قبل بضعة أيّام قال إيتان، رئيس أركان جيش العدوّ، بعد أنْ قصفت طائراته منطقة الدامور: في المرّة القادمة سنقصف أبعد من الدامور!

أبعد من الدامور؟ إذن بيروت، إذن الفاكهاني، على وجه التحديد.

إنّ هاجس إمكانيّة قصف بيروت، هو هاجس قديم، يعود إلى سنوات مضت. وكان الرأي السائد استبعاد هذا الاحتمال المجنون، وقلّة قليلة فقط ما كانت تستبعد أيّ شيء. أمّا تلك الأيّام، أقصد أيّام ما قبل 19/7/1981، فقد بدا أنّ الإمكانيّة تقترب وتقترب.

لا أذكر الآن أيّ يوم من الأيّام كان، ولكن أذكر أنّني كنت متمددًا في سريري وأنا أحسّ بسخونة خفيفة في جسدي.

كنت أقلّب الجرائد وأدخّن عندما سمعت أصوات القصف المروّع في الشارع المجاور. كان أشبه بصاعقة تنقضّ فجأة دون مقدّمات. قلت في نفسي: ها هو إيتان ينفّذ تهديده هذه المرّة.

كان الدخان قد سدّ فضاء المنطقة، وقد أخذ يتسرّب إلى غرفة النوم.

صرخت زوجتي بعد أنْ أطلّت من الشرفة: إنّهم يضربون قريبًا جدًّا، والناس تهرب. هيّا بنا. أمّا أنا فلم أحرّك ساكنًا. ظللت هادئًا في سريري، وأشعلت سيجارة. عادت الطائرات مرّة أخرى وأحسست أنّ جناح إحداها يكاد يلامس الشرفة، وضربت قريبًا جدًّا من البيت، في باحة الجامع الجديد، الّذي كان – وربّما لا يزال – قيد البناء.

تضاعف ذعر زوجتي، وألحّت عليّ بضرورة التحرّك، ولكنّني بقيت هادئًا كما لو أنّ الأمر لا يعنيني.

مرّ الشريط بذهني بسرعة البرق. تذكّرت كيف دبّ الذعر في قريتنا عام 1948، بعد مذبحة دير ياسين الّتي نفّذها مناحيم بيغن، في الثامن من نيسان ذلك العام. تذكرت كيف أنّنا هربنا بعد أنْ جاءت أخبار المجزرة، وكيف كان الناس يصرخون بذعر: "الدور علينا الآن".

تذكّرت أنّنا حافظنا على وتيرة الهرب من ذلك الحين؛ من المالحة إلى بيت لحم، إلى كرزة في منطقة الظاهريّة، ثمّ عودة إلى بيت لحم، فعمّان، فدمشق، فالقاهرة، فعمّان، فمجازر أيلول 1970، فالقاهرة فبيروت... إلخ.. إلخ.

والآن يطاردني مناحيم بيغن نفسه، بعد أربعة وثلاثين عامًا؟ وأين؟ في غرفة نومي. لا والله – لا! لن أتحرّك بوصة واحدة، ولو أصبح جسدي نثارًا في الجهات الأربع. لا والله! لن أتحرّك بوصة واحدة مهما كانت النتيجة.

لكنّ المشكلة كانت مع الزوجة – وهي لبنانيّة. قلت لها: حبيبتي، إنّ المشكلة هي بيني وبين ذلك الوغد. إنّها تصفية حسابات قديمة لا علاقة لك بها. لم تفهم، ولم تكن في وضع يسمح لها بالفهم، ولا أحد يلومها. رفضتْ النزول دوني، وأنا بدوري أصررت على البقاء حتّى النهاية. والنتيجة:

إنّه ما أنْ انتهت الغارات حتّى أغمي عليها.

كانت تجربة قاسية ومجنونة، ولكنّني كنت فخورًا في أعماقي.

والآن، وإلى الأبد، لا يمكن أنْ أنسى ذلك الصباح.

إنّني أذكر كلّ هذا بتواضع شديد، وربّما فعله كثيرون. لا أدري.

 

***

 

لكن كيف، كيف كان بوسعي أنْ أمضي إلى هنا، في هذه اليوميّات، دون أن آتي على ذكر صديقي أبو روزا، الّذي أضاف إلى اسمه «وولف» في الأشهر الأخيرة قبل الحرب، فأصبح «أبو روزا وولف».

لقد اعتقدت في البداية أنّه يريد تمييز نفسه بالذئبيّة إعجابًا بصديقنا المشترك علي فودة، لأنّ كلمة وولف بالإنجليزيّة تعني ذئب كما هو معلوم. وعلي فودة كان يحبّ أنْ يقدّم نفسه على أنّه ذئب: سأظلّ ذئبًا. هكذا أكّد أمام عشرات المستمعين في إحدى الأمسيات الشعريّة.

لكن اتّضح فيما بعد أنّ الأمر ليس كما قدّرت، وإنّه إنّما أضاف وولف إعجابًا بالكاتبة الإنجليزيّة فرجينيا وولف.

والحقيقة أنّني لم أفهم عمق التحوّلات الّتي ألمّت بأبي روزا، لأنّ الصراع المرير على «الرصيف»، وانقسام المحرّرين إلى محاور متحرّكة، وتحالفات زئبقيّة، قد أقصانا تمامًا عن أيّ شيء آخر. ولم أنتبه إلى هذه التحوّلات في أعماقه، إلّا بعد أنْ نشر مقطوعته – وهي آخر ما كتب – تحت عنوان: «الانتحار الفلسفيّ»، وأهداها أيضًا إلى فرجينيا وولف، مناديًّا إيّاها «أختاه».

وحتّى هنا اعتقدت أنّها نزوة من نزوات صديقنا العجيب، لأنّه سرعان ما توجّه إلى شوقي أبي شقرا في جريدة «النهار»، وأخبره أنّه يريد أنْ يسمّي نفسه «أبو روزا كارتر»، ولكنّ شوقي لم يشجعه كثيرًا، وأبلغه أنّ اسم «أبو روزا وولف» فيه الكفاية.

لقد التقيت بصديقي ذات ظهيرة في مقهى «أم نبيل»، وبعد عشر دقائق أخرج من جيبه قصاصة ودفعها إليّ لأقرأها، وكانت مقاطع من قصيدة تكرّمت إحدى صحف المقاومة بنشرها له في «بريد القرّاء»، ولكنّه كان فخورًا بذلك، وأراد منّي أنْ أعرف أنّه شاعر، وأنّه ينشر أيضًا:

بين العتبة والعتمة

وحيدًا غاب الأصدقاء عنك

وبقيت وحدك

والأمل عكّازك

وإ تقطع الشارع

ينبض الهاجس في زجاج نظّارتك. 

قلت له: إنّك شاعر يا أبا روزا، وإنّ شعرك لبعيد عن غرائبيّة الألفاظ، ويتمتّع بغنائيّة عميقة. وهكذا أصبحنا صديقين نكاد لا نفترق إلّا ساعات الراحة والنوم.

بعد حوالي شهر، وكنت قد اكتشفت السمات الحقيقيّة في شخصيّته، قدّمت له سيجارة، وقلت له بأنّني أريد أنْ أعقد معه صفقة أدبيّة من نوع خاصّ.

- صفقة؟ أيّة صفقة؟

قلت أنّني أنوي أنْ أكتب عدّة قصص يكون «بطلها»، ولكن عليه أنْ يطلق يدي تمامًا في تحريك هذه الشخصيّة كما أشاء، ودون أيّ انزعاج من جانبه، فتساءل: معنى ذلك أنّك ستجعل منّي أضحوكة يا صديقي. قلت له بأنّني سأفعل ذلك بالتأكيد، فقال لي بحذر: ولكن ماذا سأستفيد؟

- الشهرة يا صديقي، إنّني سأجعلك من القلائل المشهورين في هذه المدينة.

وهكذا عقدنا الصفقة. كانت شبيهة إلى حدّ كبير بالصفقة الّتي عقدها فاوست مع مفستوفيليس في مسرحيّة «غوتا» الشهيرة. وظهرت القصّة الأولى بعنوان «الأحلام السكايلابيّة السعيدة للّامواطن الكرديّ غير السعيد: أبو روزا»، وهي عن  أحلام «أبو روزا» بقبض خمسة آلاف دولار فيما لو سقطت عليه قطعة من القمر الأميركي سكايلاب.

نشرت القصّة في جريدة «السفير»، وأثارت عاصفة من الضحك. وهكذا أصبح أبو روزا شهيرًا بين ليلة وضحاها.

ظلّ منتشيًا بضعة أسابيع، ولكنّه أتاني ذات يوم مكتئبًا، على غير عادته، وقال:

- "خ... بربّك"، لقد أظهرتني غبيًّا تمامًا في القصّة. فقلت له: ومتى اكتشفت ذلك بالله عليك؟ قال: ليلة أمس، عدت أقرأ القصّة مجدّدًا فوجدت أنّك نكّلت بي بلا رحمة.

قلت له: الشرط نور يا صديقي، أم تراك نسيت الاتّفاق؟ على كلّ حال إذا ما غيّرت فإنّ صديقي «جمعة» جاهز. وبإمكاني أنْ أجعله بطلًا لقصصي، فأنا لا أريد أنْ تشعر بالغبن أبدًا.

- جمعة! ومن هو جمعة بحقّ الشيطان؟ سألني أبو روزا. قلت له بأنّها شخصيّة خياليّة، أحتفظ بها للأيّام السوداء، وبوسعي إخراجها من درج الذاكرة في أيّة لحظة، وعندها يا أبو روزا سيصبح جمعة هو النجم وليس أنت.

لم يكن الأمر سهلًا على صديقي، فتردّد بعض الوقت، وأضاف: لكن، بالله عليك، ألا يمكن أنْ تحسّن صورتي بعض الشيء في أعين الناس؟ قلت له بأنّني سأفعل ذلك في قصص قادمة، ولكنّني سأظلّ ملتزمًا بالصدق في رؤيته، فهذا أمر لا أستطيع أنْ أساوم عليه.

وهكذا جدّدنا الصفقة مرّة أخرى.

عاد بعد أسبوع ورأيته في المقهى، وكان منفعلًا وهائجًا، فقال لي: لقد جاء دوري هذه المرّة. فسألت ما الأمر؟ فقال إنّه يكتب قصّة مضادّة، وإنّه سيكيل لي الصاع صاعين.

- ولكن يا أبو روزا لا أعرف أنّك تكتب القصّة القصيرة؟ فأجاب بأنّ هذا كان من زمان، أمّا الآن، فإنّه سيكتب أكثر من قصّة حتّى ينتقم منّي.

وبالفعل كتب قصّة بعنوان «زهور منزليّة على الأسلاك»، نشرت له في العدد الأوّل من «رصيف 81»، يحكي فيها بأسلوبه الغرائبيّ الفريد عن خيبة أمله في العالم، ويصفني فيها بأنّني ممثّل. ظللت ساكتًا، فسأل، أما تغضب؟

قلت له كيف أغضب، فأنا إنسان ديمقراطي كما تعلم، ومن حقّك أنْ تراني كما تشاء.

- فدوى روحك! هكذا هتف بمحبّة، أتعرف؟ ماذا؟ قلت له. فأجاب: لي أمنية واحدة: هي أنْ أموت وأنا أحبّك.

أصبح الجوّ عاطفيًّا ثقيلًا، ولم نكن معتادين على هذا فقلت له لنخرج من الجوّ:

- على كلّ حال لست بحاجة إلى عواطف مخلوق تافه الشأن مثلك! وانفجرنا ضاحكين.

هكذا كانت تمضي أيّامنا.

وواصل أبو روزا تقدّمه في مجال الكتابة. وتخلّص من أوهامه جميعها، وانخرطنا بعد ذلك في كتابة أشعار مشتركة.

وبعدها دبّ الخلاف بيننا، بعد أنْ انحاز إلى جانب صديقي اللدود علي فودة، فذهبت أيّام الصفاء، وتراكمت الغيوم الداكنة، وعاد أبو روزا يهجس بالانتحار.

وروى القادمون من صيدا أنّ جيش الدفاع الإسرائيليّ ألقى القبض عليه وهو يحمل كاميرا، إذ انتهى إلى أنْ يعمل مصوّرًا في قسم التصوير الفوتوغرافيّ في مؤسسة السينما الفلسطينيّة.

طلب منه الجنديّ أنْ ينتظم في الصفّ الطويل للمعتقلين، ولكنّه ألقى محاضرة طويلة على الجنديّ المدجّج بأنّه رجل حرّ ومتمرّد، وأنّه من المستحيل أنْ يصفّ في طابور مهما كلّف الثمن! حماقة؟ غباء؟ كلّا، كان يريد أنْ يموت بشرف. ناوله الجنديّ القاسي صلية كاملة من رشاشه، فوقع يتخبّط بدمه مبتسمًا.

 

***

 

لديّ إحساس غريب بأنّ أبو روزا قد يكون على قيد الحياة، وأنّني ذات يوم سأصادفه في الشارع. تُرى هل تحدث المعجزة؟ هل يعود أبو روزا؟

 

***

 

ثابرنا على مطاردة «توفيق»، ضابط الأمن الّذي كلّفه المسؤول بإيجاد بيت لنا.

في البداية قال لنا: عودوا يوم الخميس، وكان اليوم هو الإثنين.

عدنا الخميس وسألنا عنه حيث يمكن أنْ يتواجد، ولكنّهم قالوا: الآن ذهب، لو أتيتم قبل دقائق لكنتم رأيتموه!

- وهل يعود؟

- طبعًا، بالتأكيد، لكن متى؟ الله أعلم.

ذهبنا وعدنا في اليوم التالي دون جدوى. وذهبنا مرّة ثالثة ولم نصل إلى جواب. لا حول ولا قوّة إلّا بالله.. عدنا للمرّة الخامسة، وكان قد انقضى أسبوع على الأقلّ، فوجدناه، فقلت أخيرًا ها هو توفيق. وكان قد تحوّل في الأيّام الأخيرة إلى أهمّ شخص في العالم بالنسبة لي، لدرجة أنّني رأيته في أحلامي عدّة مرّات.

إنّكما لمحظوظان. صرخ توفيق.

لماذا؟ هل وجدت لنا بيتًا؟

- بالتأكيد. أجاب توفيق.

- ولكنّه في الدور التاسع – أضاف.

- التاسع؟ صرخنا في الوقت نفسه.

كنت معقّدًا من الأدوار العُليا، وخاصّة أنّ بيتنا في الفاكهاني كان في الدور الثامن، وكلّ ذلك مزعج. فالخطر من الطائرات والقصف أوّلًا، وثانيًا مسألة الكهرباء، وثالثًا المياه، ورابعًا.. إلخ.

- التاسع يا أخ توفيق؟ أليس هناك شيء أفضل قليلًا؟

والحقيقة أنّ الوقت لم يكن وقت بغدَدَة واختيار. فإمّا أنْ تأخذ ما يُقدّم إليك أو تمشي، فلا أحد معنيّ بك في أيّام الجحيم هذه.

كنت أدرك هذا جيّدًا، ولم أبخل على توفيق بالشكر الجزيل بطبيعة الحال. والحقّ أنّ أمرًا إيجابيًّا واحدًا شجّعنا على التغاضي عن عيوب البيت وهو موقعه، إذ كان قريبًا من فندق الكومودور، وقد أقنعت نفسي وحاولت إقناع زوجتي بأنّنا محظوظان فعلًا، فهذه المنطقة بالذّات لن يقصفوها.

ولماذا؟

- لأنّها قريبة من فندق الكومودور، حيث عشرات الصحفيّين، ومراسي وكالات الأنباء، ومن غير المعقول يا عزيزتي أنْ يقصفوا الصحافة العالميّة.

مع ذلك، لم يخل الأمر ذات مرّة من قذيفة سقطت على الحافّة العليا للفندق.. ولكنّها كانت مرّة وحيدة.

كان كلّ همّي أنْ أحتفظ بالطّابع العامّ لتفاصيل حياتي قبل الحرب. كان طموحًا مستحيلًا. ومع ذلك كنت أحاول، وقد نجحت إلى حدّ بعيد.

هي الحرب

لا تغيّر عاداتها

تجلس على المقهى الصباحيّ

تشرب فنجان القهوة

وتدخّن سيجارة

تستوقف أحد السابلة وتسأله:

ما الحكاية؟

- هل هناك حرب؟

 

***

 

لا حرب ولا سلام

هو السلام المحارب

أو الحرب المسالمة

رجل بثلاثة وجوه

وكآبة واحدة.

 

ليست أربعاء الرماد

ولا أربعاء الجمر

إنّها أربعاء الراجم

لكن من هو إبليس؟

لعلّه الناس جميعًا.

 

***

 

عدت أجلس إلى المقهى كما كان الحال أيّام ما قبل الحرب، وكانت مقاهي الحمراء قد أغلقت الواحد تلو الآخر ولم يبق إلّا مقهى أخير اسمه «مودكا». وكنتَ لا تزال تجد فنجانًا من القهوة وكوبًا من الماء المثلّج، ناهيك عن البيرة وبقيّة المشروبات. أمّا شارع الحمراء فتحوّل إلى سوق شعبيّة حقيقيّة، وقد امتلأ بكلّ أنواع بضائع الحرب وخاصّة الشموع، وقناديل الغاز، وباعة سندويشات الفلافل، وحتّى باعة اللحوم المشويّة.

تغيّر شارع الحمراء تمامًا، وامّحت صبغته البرجوازيّة التجاريّة اللّامعة المغرية، وأضحى شارعًا للفقراء؛ هم ساكنوه، وهم تجّاره، وهم زبائنه.

وعادت أحلامي القديمة تداعبني؛ ماذا لو بقي هؤلاء الناس إلى الأبد؟ كلّ في البيت الّذي يسكنه؟ ماذا لو غيّرت هذه الحرب من حياة هؤلاء الفقراء جذريًّا؟ إذن لاستحقّوا الّذي يستحقونه، والّذي دفعوا ثمنه غاليًا جدًّا من لحمهم ودمهم.

ولكنّني كنت أحلم.

ماذا لو أصبحت بيروت عاصمة حقيقيّة للفقراء؟ للمقاتلين وأهاليهم؟ ماذا لو.. لكنّني كنت أحلم.

كنتَ لا تزال تجد بعض الغذاء، بعض الفواكه، وشيئًا من الماء. وحتّى الكهرباء تأتي أحيانًا فتشاهد بعض مبارايات كره القدم العالميّة، وكانت مسابقة العالم قد بدأت مع بداية الحرب.

ركّزنا أمورنا تدريجيًّا في البيت الجديد. ولكنّني لم أنسَ الفاكهاني.

لا بدّ لي من العودة إلى الفاكهاني

بين حين وآخر

فلديّ زهور عليّ أنْ أسقيها

وكتب لأنفض الغبار عنها

وأسطوانات لأستمع إلى صمتها.

 

***

 

كنت أعتمد كلّيًّا على حدسي، فحينما شعرت أنّه لن يكون طيران وقصف في الفاكهاني كنت آخذ السرفيس حتّى كورنيش المزرعة. ومن هناك أمشي آخذًا طريقي إلى البيت القديم في الفاكهاني. كان ثمّة مراكز عسكريّة على طول الطريق، وكنت أرى المقاتلين يقرأون الصحف أ ويلعبون الورق، أو يأكلون بهدوء. أمّا شظايا الزجاج وآثار الدماء فكانت تغطّي كلّ شيء.

وفي كلّ مرّة أعود أجد أنّ الملامح تتغيّر. فالشارع الّذي تركته سليمًا في المرّة الأخيرة أجده مفخوتًا، ومحفّرًا من أوّله إلى آخره.

 

 


عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.